الأحد، 19 يونيو 2016

سراب

امتلئت غرفة تغيير الملابس بسكون قاتل ...سكون لم تتخلله  الا نظرات احمد الحائرة بين أوجه الحاضرين الذين أصطفوا أمامه وقد تعلقت اعينهم به ....... كانت عينيه تدور بينهم لترمقهم بنظرات التساؤل ..... نظرات تمني لو تنتهي بإجابات !!! ..... 
قطع السكون صوت خطوات ابيه الذي تقدم نحوه في هدوء ووقار ....واعطاه زياً رياضياً كالذي يرتديه العدائون في مسابقات العدو 
"خد يا احمد .... من هنا ورايح متقلعوش ... خليك لابسو علي طول انت كبرت خلاص "
عقد احمد حاجبيه في تعجب وهو ينظر الي الزي  ثم يعيد النظر الي والده الذي تجمدت علي وجهه ابتسامه غامضة حاول احمد تفسيرها جاهداً ... الا ان صوت أمه اجتذبة من محاولاته ..
"حبيبي شوف انا بقا جيبتلك ايه ....هلبسهولك بنفسي ... هات رجلك كدة.. بس البس لبس بابا الاول  "
بعد ان ألبسته الزِي انحنت أمه وهي تمسك بحذاء رياضي جديد ألبسته إياه قائله
"هيساعدك قوي يا حبيبي...... ربنا يوفقك " 
ازداد انعقاد حاجبيه واستمرت نظرات الاندهاش وعلامات العجب في اجتياح ملامح وجهه الي ان وقعت عينه عليه !!..... 
كان هادئ الملامح  يتبسم ابتسامه تبعث الطمئنينه والراحه اذا نظرت اليه كما أضفت عليه لحيته البيضاء وزيه الديني مزيد من السكينة التي انتقلت الي قلب احمد مباشرة وهو ينظر اليه في عينيه... ربت الشيخ علي كتف احمد بيسراه وقد أمسك في يمناه حزمة اشرطة بيضاء ناصعة ....

" احمد .... خلي دول معاك ...
مهما حصل ...مهممما حصل حافظ عليهم ... 
دول الي هينجوك يا احمد ... اوعي يضيعو منك... اوعي يا ابني "
وضع الشيخ حزمة الاشرطة في يد احمد ثم أغلق قبضة احمد عليهم وشدد قبضتة وعينيه لم تفارق عينيه
"اوعدني انك هتحافظ عليهم  ....."
أومأ احمد برأسه مستجيباً للشيخ الذي ظل يربت علي كتفه ويحدثه حتي سمع صوت يناديه 
"يلا يا احمد مفيش وقت ..... انت اتأخرت ..." 
اخترق هذا الصوت اذن احمد ليُعيده مرة اخري الي  قلقه و تساؤلاته التي لم يعلم إجاباتها حتي الان ... كان صوت زوجته التي وقفت علي باب الغرفة تشير اليه بالإسراع ممسكة في يدها بعصابةٍ سوداء داكنة ... انتظرته وهوا يتقدم نحوها في خطوات ثقيلة و قد ارتسم الوجوم علي وجهه ....وغممت عينيه بعصابتها السوداء ....
"حبيبي ...
اوعي تشيلها من علي عينك ...
واوعي تقف ...
 احنا ملناش غيرك ... 
اسمع كلامي ... اسمعو طول الطريق " 
وقف الجميع خلف احمد الذي فُتح الباب أمامه وشعر بلفحه ساخنه في وجهه ... لفحة قادمة من صحراء ملتهبة ....  من طريقه القادم الذي لا يراه .... 

************************************
خطا احمد أولي خطواته ببطئ محاولاً استيعاب واقعة الجديد .... وأصواتهم في أذنيه لا تنقطع ....
كان يخطو بصعوبة في هذة الرمال الثقيلة ولم يساعدة حذاء أمه كما اخبرتة ... لم يكن مناسباً أبداً لمثل هذه الرمال ...!
لكنه اكمل سيره .... 
لم يمض طويلاً حتي  بدأت قطرات العرق تسيل علي وجه احمد وتسقط معلنة عن جو ملتهب قاس ....
لكنه اكمل سيره ...!

" احمد انا حامل .... مد شوية "
تردد هذا الصوت في أذنه من بعيد لكنه ميزه ... انها هي .. زوجته .... وعليه ان يستجيب كما أخبرته ....

زاد احمد من سرعة خطواته وبدأت انفاسه في التسارع .....
"مبروك يا احمد .. جالك ولد ..... مد كمان أسرع الولد هيحتاج مصاريف " 
هذه المرة كان الصوت المتردد صوت أمه .... تنصحه وعليه ان يستجيب 
بدأ احمد يهرول مسرعاً خطواته وزاد عرقه وشعر بملابسه تلتصق بجسده النحيل من العرق .... 
وأكمل احمد .....
" ابنك داخل المدرسة.... مد يا احمد ... لازم يخش مدرسة كويسة ... مد يا احمد "
حاول احمد ان يزيد من سرعته لكن الجري علي هذه الرمال كان صعب .... لكنه حاول ...و نجح ...وبدأ يجري وعرقه يتصبب وانفاسه تتلاحق وشعر بقبضته ترتخي ليسقط منها شريطة بيضاء .... 
"اهدا يا احمد ... اهدا ... انت وعدتني انك هتحافظ عليهم ... اهدا "
ميّز احمد صوت الشيخ ... هذه المرة لم يكن هادئً كما اعتاده ... وكان عليه ان يستمع الي كلماته كما وعده.... 
قلل احمد من سرعته وشدد علي قبضته ... وأكمل السير 
" مبروك يا احمد .... جالك بنت زي القمر .... اجري بسرعة بقا انت هديت ليه ؟! "
 زاد احمد من سرعته مجددا .... زاد وهو يشعر انه بحاجة للتوقف .... لكنة اكمل .... 

"احمد انا محتاجين عربية .... انت ليه مهدي .. اجري يا احمد ... اجري " 
كانت هذه أقصي سرعة يستطيع ان يجري احمد بها وهو يشعر بجسده يصرخ من الإعياء .... لكنه اكمل ... وارتخت قبضته ....
وسقطت منها شريطه ... واخري .... واخري ...
"احمد ... حرام عليك نفسك ... اهدا مش ده الي هيوصلك .. اهدا ياحمد " 
" مصاريف دروس العيال يا حمد ... اجري أسرع "
"ربنا مقالكش موت نفسك يبني ... اهدا " 
"عايزين شقة أوسع ... اجري يا احمد "
"الرزق مش فلوس بس قولتلك. صحتك بتروح .. اهدا "
"احمد ..عايزي.........
"احمد"
"احمد"
"احمد يبني رد عليا ... ده الي قولتهولك ... احمد .. احمد "

سقط احمد علي وجهه وتمدد جسده وسط الصحراء الشاسعة ...سقط وقد ارتخت قبضته الخاليه تماماً.. لم يبق بها  شئ......
 حاول ان يستعيد جسده المنهك ويقف... ويري أين هو  ...لكنه فشل ... فالعصابه لاتزال علي عينيه وجسدة عاجز عن النهوض ...

جثا علي ركبتيه وهو يشعر بالرمال الحارقة في وجهه وامتدت يده لتزيل العصابه .... وأزالها ..... ونظر ....

كانت المرة الأولي التي يري فيها مشهد الصحراء الشاسعة بعينيه  منذ ان بدأ رحلته ...وتمني لو لم يفعل ......!
 كان يظن انه علي وشك الوصول ... لقد بذل كل ما يستطيع ليصل ... لكنه لم يصل .... 
أراد العودة .... لكنه لم يجد طريق هذه العودة ... ولم يعرفه
لا عوده ....
"احمد .... كفاية كدة قوم الولاد داخلين الجامعة .... قوم بسرعة ... ولادنا يا احمد " ...
" اهدا يا احمد واسمع كلامي ..لمهم من الارض ..هما حوليك ومتفرطش فيهم ..دول الي هينجوك صدقني " 

شقّت دمعة حارة طريقها بين الجروح و الرمال التي غطت وجه احمد لتسقط في هذه الصحراء الموحشه ...  وتبعتها دمعة اخري ... واخري ...... واجبر احمد جسده المنتهي علي القيام .... وقام ... 
"يلا يا احمد ...."

وخطا خطوة ثقيلة

"أقف لمهم يا احمد ...."

 ... ثم اخري .... 

"بسرعة يا احمد ...." 

ثم مشي ....

" اقف يا احمد ...."

 ثم أسرع  .... 

" اجري يا احمد ..."

ثم سقط ....

***********************************
تمت 
إسلام البدري