الخميس، 8 أغسطس 2019

هذا البيت 5 .. مجهول عظيم !


كان اليوم الخامس في الحرم ...وكدبيب النمل بدأ التعود يدق أرجاء القلب .... تصلي وربما تنسي أن تدعوا ...الجنازات تتابع عليك فلا يرق قلبك كما هي اول جنازة ..... تشتاق للكعبة فتذهب لتنظر إليها ثم هي دقائق وتعود لا تلتهمك الأشواق وتغرسك امام هيبتها كأول يوم .... رويت ظمأك من ماء زمزم فصرت تشربه للحاجة لا للحب ..... ثم أذن مؤذن الحرم للعشاء وصليت وانهيت الصلاة وجلست اذكر فجاء يقول
اخي ممكن تتصدق عليا وتصلي معايا العشاء عشان ملحقتش 
نظرت اليه ..هو مصري بسيط الملامح بسيط الثياب في لسانه ضعف لا يتقن بعض الحروف 
-ماشي حاضر 
لا اعلم كيف علم انني مصري رغم ملامحي التركية الصارخة ..ربما من النظارة ذات الشريط اللاصق التي كسرت مني فلم اجد ما ..ارممها به سوي شريط مستعمل ..فالاتراك لا يرتدون نظارات مكسورة
....علا كل حال فرد سجادة الصلاة وقدمني للإمامة فرفضت وقدمتة و نويتها سنة وكبر


قليلة هي المرات التي يصادف فيها المرئ أمثلة كالتي يرويها الوعاظ ويكون هو بنفسه الراوي ،عندما قدمته للإمامة حدثتني نفسي بٱنه كان علي الا افعل فهيأة الرجل لا توحي بصلاح احكام تلاوته وربما يلحن وربما يخطأ وربما لا يحفظ وربما ولكنه عاجلني واستفتح بقراءة سليمة ثم قرأ ب " أمن الرسول بما أنزل إليه ....." واسترسل 
كانت قراءته عادية لا تدفعك للإنتباه ...لا تجذبك .. ضعف لسانه في الحروف (الدغ) يذهب بتركيزك إلا أن كل هذا كان لا شئ أمام عظمة هذا الرجل !!.... 


امن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ..كل امن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ... وقالو سمعنا
 واطعنا ............غفرانك ربنا .....واليك المصير .....
هنا بدأ صوته يتهدج فظننته يتلعثم وانتبهت 
كررها سمعنا واطعنا ..... غفرانك ربنا ......غفرانك ربنا ...غفرانك ربنا واليك المصير 
هنا أدركت .... أدركت أنه يبكي ...
يبكي ....
انا اعلم ذلك البكاء ....سمعته كثيراً في رمضان خلف الأئمة أصحاب الاصوات التي تأتي بالمصلين لكن بكاء هذا الرجل كان مختلف كان له انين كأنين المرجل يتهدج صوته ويرجف جسده بلا تكلف 
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتنا ...... ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته علي الذين من قبلنا......ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ...... 
واعف عنا .... واعف عنا ... واعف عنا ... واغفر لنا وارحمنا ....انت مولانا فأنصرنا علي القوم الكافرين

قد انهي الرجل قراءته وما انتهي من بكاءه حتي قام وهدأ رجفه وعاد صوته واستفتح الثانية وقبل ان يقرأ بعد الفاتحة تمنيت ان يطيل في هذه الركعة فقلت يا ليته يقرأ بالطوال لكنه لم يفعل وقرأ ب" اذا جاء نصر الله والفتح" .... بدأها ثم تلعثم ... ثم توقف ....حتي ظننت أنه نسي وهممت برده .... لكنه لم ينسي ... بل تذكر وانا من نسي .... تذكر أنه يصلي في بيت الله الحرام ونسيت .... تذكر وبكي ....
بكي مرة أخري ..وارتجف مرة أخري ولكن هذه المرة كان بكاؤه من " اذا جاء نصر الله والفتح" بكي ...وقد انقضي عمري في ساحات المساجد وبين أكتاف المصلين وما بكيت ولا سمعت من بكي منها ولكنه فعل .... بكي منها كما بكي ابو بكر... الصديق العلم الجبل الأشم 
 هل حاد حادي الارواح بروحه حتي وصل إلي ما وصل إليه الصديق .... هل فعلها هذا المصري البسيط المتلعثم اللسان البسيط الهيئة 
هل يسبق بها من صحت السنتهم وشمخو بهيئاتهم ...هل و هل وهل .... اقولها والله من فوقي عليم.. نعم ... والله لقد سبق ... واحسبه  من المُخلِصين .. المخلَصين الذين لا ينظر لهم اهل الأرض لكنهم والله في السماء نجوم

أكملنا الصلاة وقد الجمتني هيبه الرجل ..واستحييت أن انظر إليه بعد أن سلم ..ثم استغرقتني سحابة من الوجوم من أثر هذه الركعات استفقت منها وقد مضي الرجل .... مضي المجهول العظيم ..هكذا اسميته ... مضي وقد ترك في نفسي أثر لا يُمحي ... أثر تتقازم
امامه هامات وقامات ... لقد علمني انه ما زال في هذه الأمة لله أولياء ..لم تقطع خناجر الفتن حبالهم بالسماء ... ولم تقتلع الدنيا قلوبهم من أرض الأخرة الخضراء ....    
لم احاول ان ابحث عنة بعدها ....وآثرت ان انزل الي صحن الكعبة وأكتب هذه الكلمات امامها ..حتي تظل ذكراه كالطيف اللطيف الأثر مقرونة بنظرات لبيت الله وكعبته ...فأكتب عنه ثم انظر إليها ...ثم اكتب ثم انظر ثم أكتب ..... لعل ما اكتب وما انظر يكون شهادة لي يوم القيامة أني أرجو ان أكون مثله ... هذا المجهول العظيم !!!