كان اليوم الثالث وكانت الساعة قاربت الثالثة عندما نويت أن أنزل الي صحن
الكعبة أطوف بها ...تركت حقيبتي وحذائي واخذت شاحن الهاتف لأستغل وقت الطواف في
الشحن .. وبالفعل نزلت وبحثت عن مخرج للكهرباء ' فيشة' وبعد رحلة بحث وجدت ضالتي
ووضعت الهاتف وما هي إلا دقائق وعاجلني اذان العصر فجلست قريبا من الهاتف لاصلي ثم
انطلق .... أنهينا صلاه العصر ثم صلاة الجنازة التي لم تخل صلاة في الحرم الا
واعقبتها وهذا والله خير كثير وتذكرة عظيمة تضاف الي جملة خصائص بيت الله الحرام ،
ثم قمت اكمل ما نويت عمله لولا ما رأيت !
امرأه كبيرة تمسك في يدها بهاتف محمول متصل بالشاحن تمشي علي عجل في اضطراب ملحوظ
ثم تقف عند مصدر الكهرباء وتضع الشاحن بتلجلج أطاح ببقاقي الشواحن المتصله
بالكهرباء ! ... اسرعت لاصلح ما أفسدته وانا اتعجب من فعلها إلا أنني لما اقتربت
منها زال عجبي!!
هي الحاجة سهام من لبنان، عجوز صغيرة الجسم شامية الملامح ترتدي جلباب وخمار ابيض
وتربط حول رقبتها وشاح برتقالي يتدلي علي ظهرها من الخلف وهذا شكل مألوف في
الحرم(التوشح) تفعله الأفواج من البلدان المختلفة لتميز به نفسها في الزحام اذا
افترقوا ليسهل علي العين التقاط اللون المميِز للفوج والعودة إليه .... إلا أن هذا
الأمر لم يفلح مع الحاجة سهام وضاعت في وسط الزحام بعد أن حال بينها وبين فوجها
فوج اندونيسي كبير لم ينه التحامه مع فوجها الا بعد أن ضاع أثرهم ... كانت تحدث
نفسها وهي تمسك بالهاتف تنظر إليٓ بنظرات زائغة ثم تعيد النظر إلي الهاتف وتحدث
نفسها مرة أخري ... كانت مضطربة بشدة...!
اقتربت منها وسألتها أن اساعدها ومضي وقت حتي فهمت منها ما حدث .... كانت تخبرني
بأحداث غير متصلة وغير مرتبة فتحدثني أنها تريد اصلاح الواتس اب بهاتفها ثم أن
اولادها الكبار في لبنان لا يجب أن يعلموا انها تاهت حتي لا "يحرقوا الشارع
" علي حد قولها ثم عن الفوج الذي فرقها عن مجموعتها ثم عن بنتها
"حياة" الصغيرة التي جعلتها تحج بالرغم من معارضة اخوتها ثم تعود للهاتف
الاحمق الذي يأبي أن يجري مكالمة لإبنتها 'حياة' وهكذا .... علي كلٍ التقطت منها
الهاتف وحاولت أن اصلح الواتس اب لولا أنه كان من نوع الأندرويد الذي ابغضه فعجزت
عن اصلاحه وسألتها عن أي ارقام لأحد من الفوج الذي معها أو مشرف الرحلة فأخبرتني
بأسي انها ليس معها اي رقم وما اصابني بالاحباط انها لم يكن معها اي شئ استطيع أن
اساعدها بالتوصل إليه فليس معاها اسم الفندق ولا اسم المشرف ولم تعطني وصف لاي شئ
يصلح أن أتابعه او أسأل عنه بل لم يكن معها جواز سفرها من الاساس !!!
بالطبع لم يكن بوسعي أن اتركها ولكنني كنت حافي القدمين وتركت حذائي في الأعلي فلم
أكن أنوي الخروج من الحرم فكان علي أن أذهب واحضره لو اردت مساعدتها وفي نفس الوقت
خفت ان اتركها فيضيع أثرها وبالطبع لن اجعلها تصعد معي الي الاعلي ثم تنزل مرة
أخري !! .. اخبرتها انني سأعيدها الي الفندق وان تهدأ من روعها ولا تقلق ثم اخذتها
الي ناحية احد السلالم الكهربائية واخبرتها الا تترك هذا المكان ابدا حتي اعود
اليها ...
انطلقت سريعا لأصعد وأخذ الحذاء وانا افكر ماذا سأفعل وكنت خائف من ان اعود ولا
أجدها و تظل تائهة ولا تجد من يساعدها وطوال سيري الذي استغرق ما يقارب الربع ساعة
وانا ابحث عن حلول !
عدت الي حيث تركتها ونظرت الي المكان الذي اخبرتها الا تتحرك منه فلم أجدها !
، إلا أنني وجدتها بجوار المكان وقد جلست في الارض مغتمة حزينة فأسرعت إليها
وحاولت أن اطمأنها واخبرتها انني لن اتركها وان لا تقلق وخرجت بها من الحرم الي
الساحة وفي الطريق اخذت اتحدث معها وكانت احيانا لا تجيبني وتحدث نفسها بلهجة
لبنانية وتستخدم مفردات جعلتني اضحك كثيراً
كانت قد أعطت حذائها لرفيقه لها في الفوج وكانت تسير حافية القدمين فقالت
-يا عيب الشوم ، ماشيانه حفيانه مو عارفة انا فين
وبينما احدثها واحاول إخراجها من فزعها جائني أن أخذ رقم أحد أبنائها في لبنان
وارسل له علي الواتس من هاتفي الشخصي لعله يرد ويوصلني الي اي معلومة !.
وبالفعل اخذت هاتفها وسألتها
-اتصل بمين من عيالك يا حجه
-اتصل بأحمد الصغير ولا تتصل بحدا من للكبار لو عرفو راح يحرقوا الدِنيا... أو لا
تتصل بأحمد اتصل بحياة بنتي هي الي سفرتني
-اخر كلام يا حجة اتصل بأحمد ولا بحياة؟
-اتصل بحياة بنتي هي الي سفرتني وبتحب إِمّا.
بحثت عن رقم حياة في هاتفها والحمد لله وجدته سريعا فنقلته لهاتفي وارسلت اليها
علي الواتس رساله صوت ويااااال الحظ !!
كانت متصلة (اونلاين) فأجابتني علي الفور بقلق شديد أنها ستأتي لي برقم المشرف
فأستبشرت خيرا وانتظرت ،وفي انتظاري كنت كلما وجدت احد العساكر السعوديين أخبرته
بأمرها لعله يساعد إلا أن كل عسكري بزي كان يُحيلني الي عسكري بزي اخر ويقول إنه
لا يعلم .....
رن هاتفي بإشعار واتس اب فأسرعت انظر الي الرساله والتي لم تكن من حياة ولكن كانت
من مشرف رحلة الحاجة سهام !
تواصلت حياة مع مكتب الرحلات واعطتهم رقمي وارسلوه الي المشرف الذي لم يكلف نفسه
بالاتصال ولكن ارسل علي الواتس اب يخبرني ان الحاجة سهام ضاعت منه وليست وحدها
التي ضاعت بل ضاع ثلاتة نساء اخريات !!! ويخبرني بإسم وعنوان الفندق وأنه سينتظرها
في الفندق !!!
تعجبت منه كيف يترك الحرم ويعود للفندق بعد ضياع هؤلاء العجائز ولا ينتظر حتي
يجدهن ويعيدهن !!! وما زاد ضيقي أن الحاجة سهام كانت قد بلغ بها الإرهاق مبلغه فهي
تمشي منذ ما يقارب الساعتين وعندما خرجنا الي خارج الحرم كانت تستحث خطاها لتمشي
وكان اقرب مكان تستقل منه تاكسي في الجهة المعاكسة للحرم ! ما يعني ربما اكثر من
نصف ساعة أخري من السير علي القدم وهي فعلا لن تستطيع قطع كل هذا الوقت !!
كنا قد وصلنا الي حافة الحرم وعندها كانت هناك سيارة شرطة تقف ... فجائني أن
اسألهم المساعدة وان يقوموا بتوصيلها فلما رأتني الحاجة سهام اتحدث الي قائد
السيارة ظنت من يأسها أنهم سيقوموا بتوصيلها واسرعت تفتح باب السيارة المجاور
للضابط الذي كنت احدثة وما أن فتحت الباب حتي ثارت ثائرته وهم أن يبطش بها فكيف
تجرأ علي فتح باب السيارة لولا أن هدأته وقصصت عليه قصتها وكانت بالفعل تبدو منهكة
جدا وهو ما جعله يهدأ ويصدق كلامي وأخبرني أن السيارة لا يمكن أن تتحرك لأنها
دورية ثابتة ولكنه سيحضر ليموزين (أجرة) لها في هذا المكان الذي لا تدخله سيارات
.... وبالفعل جزاه الله خيرا تركنا واختفي لدقائق مرت ببطئ جلست فيها انا والحاجة
سهام علي الرصيف ثم جاء بسيارة أجرة يقودها سائق هندي !!!
كنت وقتها حافياً فقد أعطيت الحاجة سهام نعلي لتلبسه وعندما رأيت هذا الأحمق
الهندي شعرت بالقلق علي الحاجة سهام اردت أن اركب معها واوصلها لكني لم افعل ويا
ليتني ركبت معها! اريت هذا السائق اسم الفندق علي هاتفي وجعلته يصوره بهاتفه
وسألته هل تعرف العنوان فهز رأسه وابتسم ابتسامة بلهاء وهو يقول لي "اركب سوا
سوا" فقلت له إنني أن اركب وشددت عليه هل يعرف العنوان ام لا فهز رأسه مجددا
بكل بلاهة في علامة إيجابية أنه يعرفه! ...
لم اطمئ لهذا الأحمق وطوال طريق عودتي للحرم وانا الوم نفسي علي عدم ذهابي معها
واردت أن اطمأن علي وصولها فأرسلت الي المشرف لكنه لم يكن متصل فنويت أن اتصل به
عقب صلاة المغرب التي حل وقتها ولم استطع اداء الصلاه في مكاني لاغلاقهم الابواب
ووجدت نفسي اسير حتي وصلت إلي دور السطح وصليت في الاعلي .... وطوال الصلاة وانا
مشغول بمصير الحاجة سهام !
انتهت الصلاة وههمت بالنزول والعودة لمكاني وبينما أنا ذاهب إذ رن هاتفي علي الخط
السعودي! اخرجت الهاتف وما أن اجبت المتصل حتي سمعت صياح سعودي خالص!
- يااا شييخ ... انا ما ادري كيف تسيب المرة في الشارع تطيح،صارلي ساعة ما عارف
افهم منها شي ودوامي انتهي وما عارف اروح منها ، يا شيخ حرام عليك انت ما عندك
احساس ،يا شيخ .....
طلبت منه أن يهدأ لأفهم وأخبرته أنني لست المسؤل عن رحلتها فقد كان يظن أنني
المشرف وأخبرته أنني وجدتها ضالة في الحرم واركبتها سيارة الأجرة ولكن هذا الهندي
الأحمق فعل ما كنت اخاف منه ولم يوصلها الي الفندق !! واخبرتة أن يغلق الان وسأخرج
له اسم الفندق واتصل به لاخبره به وفعلت واتصلت به وأخبرته... شعرت وقتها بضيق
شديد وانني كان عليّ الا اتركها الا بعد أن اوصلها ! واغتممت غما شديدا لولا أنه
لم يمض كثيرا حتي دق الهاتف بإشعار من المشرف يرد عليّ أن الحاجة سهام وصلت وارسل
لي صوره لها وتسجيل صوتي تدعو لي فيه ... فحمدت الله كثيرا علي رجوعها فقد وقعت في
قلبي بمقام جدتي رحمها الله وكانت تشبهها كثيرا وكنت سأغتم كثيراً لو لا قدر الله
أصابها سوء فالحمد لله علي لطفه بها حمدا كثيرا.
بعدها بيومين وبعد صلاة العشاء خرجت من الحرم لحاجة لي وتكرر نفس الموقف مع امرأة أخري ولكن هذه المرة كانت مصرية صعيدية تاهت من زوجها وليس معها إلا اسم الفندق وكنت يومها اعاني من إعياء شديد ويكاد صوتي يختفي من "دور البرد" وتمنيت لو لم ألقاها حتي لا اشعر بالذنب لو تركتها ولكن الله كان لطيفاً بي وبها فقد كنت علمت بعد موقف الحاجة سهام ان هناك كشك للمفقودين لمثل هذه الحالات فسألت عليه ولحسن الحظ كان في الجهة التي نحن بها من الحرم وليس الأخري فذهبت معها إليه وقبل أن نصل بدقائق وجدتها تصيح وهي تنظر الي أحدهم
اهو .... اهو
وجدت زوجها واقبل والغضب في عينيه وأخذ يصيح فيها ويعنفها كيف تتركه واين ذهبت وهي ترد عليه انها فجأه لم تجده فيعيد نفس كلامه بنصه وجمله وهي ترد عليه بنفس الردود وكان حديث كوميدي بلهجة صعيدية خالصة ما جعلني أخرج هاتفي لعلي اسجله وفعلت وسجلت جزء صغير معي حتي الان أسمعه واضحك كثيرا ....
اذكر انني تلقيت اتصالا من الحاجة سهام بعد الحج بفترة وكنت يومها اعمل في مشروع مدينة
العالمين وتركتهم في الموقع وذهبت إلي شاطئ البحر المجاور انظر اليه كما هي عادتي
وقتها فقد كنت أشعر بضيق في صدري لا اعلم له سبباً وعندما اجبت علي الرقم الدولي
لم اكن اعلم انها هي كل ما اعلمه أن صدري انشرح وتهللت اساريري وهي تدعوا لي
بلهجتها اللبنانية التي تأسرني .. وانهيت المكالمة بدعاءها وظللت علي شاطئ البحر ساعة كاملة بعدعا انظر اليه واشهده علي فضل الله عليّ ومنته والحمد لله